وأهل المريخ من أجل ذلك يسمون الأرض بيمارستان الفلك
قرأت يومًا للأديب الملهم العبقري مصطفى صادق الرافعي جملةً ظريفةً في سفره وحي القلم فوقعت في قلبي “والحق أقول لكم إن آخر ما انتهت إليه فلسفة الطب في القرن العشرين أن الناس جميعا مجانين ولكن بعضهم أوفر قسطا من بعض. كأن سلب العقل هو أيضا حظوظ كحظوظ موهبة العقل. وأهل المريخ من أجل ذلك يسمون الأرض بيمارستان الفلك“.
فما هو البيمارستان؟
البيمارستان لفظة فارسية ركبت من كلمتين (بيمار) ومعناه مريض، و (ستان) ومعناه (مكان)؛ فتكون إذا مكان المرضى أو دار الشفاء أو مستشفى.(1)
وسميت دار الشفاء أو المستشفى بدلا من دار المرضى تفاؤلا، وهي تسمية وجيهة وفعل مشهور عند العرب، ومن ذلك قولهم للملدوغ سليم.
مارستان مخفف بيمارستان
والتصرّف الذي حصل في هذه الكلمة ((مارستان)) إثر نقلها إلى العربية وتعريبها، هو حذف أوّلها ظنًا منهم أنه حرف جر، وأصلها في الفارسية: بيمارستان مركب من (بيمار) ومعناه: المريض. و (أستان) لاحقة تفيد معنى المكان، وتحذف همزتها في التركيب.(2)
وكانت كلمة (بيمارستان) تطلق في بادئ الأمر على المستشفيات التي تعالج فيها الأمراض بصورة عامة؛ أما بعد ذلك لما أصابتها الكوارث وحل بها البوار وهجرها المرضى أقفرت إلا من المجانين حيث لا مكان لهم سواها فصارت كلمة (مارستان) -وهي تحريف بيمارستان- لا تنصرف إلا إلى مستشفى المجاذيب.(3)
ومما يسترعي النظر كثرة الأسامي والمصطلحات الطبية الفارسية التي كانت شائعة في اللغة العربية، ومن ذلك ((شرايخاناه)) أي صيدلية، والكلمة محرفة عن شرابخانة الفارسية ومعناها خزانة الشراب.(4) قلت ولا يخفى الشبه بينها وبين لفظ أجزخانة والتي تطلق على الصيدلية إلى يومنا هذا.
أول بيمارستان في الإسلام
وينسب إلى الوليد بن عبد الملك الذي تولى الخلافة من عام 86 إلى 96 هـ فضل بناء أول بيمارستان في الإسلام وأقام له الأطباء وخصص لهم الرواتب، وكانت إقامة أول بيمارستان حقيقى في الإسلام ثمرة للأثر المتصل الذي أحدثته المدرسة الطبية والمستشفى اللذان كانا قائمين في جنديسابور من أعمال خوزستان، فقد أنشئت هذه المدرسة والمستشفى في ظل الساسانيين، وأرست هذه المؤسسة تقاليدها السريانية الساسانية والهندية ثم الإغريقية أخيرًا، وأدخلتها في العصر العربي، وأحدثت منذ انتقال قصبة الدولة إلى العراق أثرًا عميقًا في تطور الطب العربي.(5)
عظم البيمارستانات في الإسلام
وسنذكر ثلاثة أمثلة على ذلك..
أولهما ما أورده الدكتور صلاح الدين المنجد عن وقف البيمارستان النوري فكتب: “وقد أوقفه نور الدين على الفقراء دون الأغنياء، ولكنه استثنى بعض الأدوية التي لا توجد إلا فيه، فمكن الأغنياء من أخذها إذا احتاجوا إليها ولم يجدوها في مكان آخر. وكان كل من جاء البيمارستان طبِب وأُعطي شرابه، وإن كان غريبا احتُفى به وقدم إليه أحسن المآكل“.(6)
وثانيهما ما ذكره الدكتور أحمد عيسى عن البيمارستان الطولوني فقال: “وكان في بيمارستان أحمد بن طولون خزانة كتب كانت في أحد مجالس البيمارستان، وكان فيها ما يزيد على مائة ألف مجلد في سائر العلوم“.(7)
وثالثهما ما كتبه ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة: “تزعم الإسلام العالم كله في إعداد المستشفيات الصالحة وإمدادها بحاجاتها. مثال ذلك أن البيمارستان الذي أنشأه نور الدين في دمشق عام 1160 ظل ثلاثة قرون يعالج المرضى من غير أجر ويمدهم بالدواء من غير ثمن؛ ويقول المؤرخون إن نيرانه ظلت مشتعلة لا تنطفئ 267 سنة. ولما وفد ابن جبير إلى بغداد في عام 1184 دهش أيما دهشة من بيمارستانها العظيم الذي كان يعلو كما تعلو القصور الملكية على شاطئ نهر دجلة، والذي كان يطعم المرضى ويمدهم بالدواء من غير ثمن. وفي القاهرة بدأ السلطان قلاون في عام 1285 تشييد بيمارستان المنصور أعظم مستشفيات العصور الوسطى على الإطلاق، فقد أقيم في داخل فضاء واسع مسوّر مربع مباني أربعة يتوسطها فناء يزدان بالبواكي، وتلطف حرارته الفساقي والجداول. وكان يحتوي على أقسام منفصلة لمختلف الأمراض وأخرى للناقهين، ومعامل للتحليل، وصيدلية، وعيادات خارجية، ومطابخ، وحمامات، ومكتبة ومسجد للصلاة، وقاعة للمحاضرات، وأماكن للمصابين بالأمراض العقلية، زودت بمناظر تسر العين. وكان المرضى يعالجون فيه من غير أجر رجالًا كانوا أو نساء، أغنياء أو فقراء، أرقاء، أو أحرارا، وكان كل مريض يعطي عند خروجه منه بعد شفائه مبلغا من المال حتى لا يضطر إلى العمل لكسب قوته بعد خروجه منه مباشرة. وكان الذين ينتابهم الأرق يستمعون إلى موسيقى هادئة، وقصاصين محترفين، ويعطون في بعض الأحيان كتبًا تاريخية للقراءة. وكان في جميع المدن الإسلامية الكبيرة مصحات للمصابين بالأمراض العقلية“. وقال أيضًا في موضع أخر: “أنجب المسلمون في هذا العصر، كما أنجبوا في غيره من العصور أعظم الأطباء في آسية، وإفريقية، وأوربا”.
قد عرفنا البيمارستان فما الـ ((Rx))؟
جاء في قاموس أكسفورد الإنجليزي:
Rx | a doctor’s prescription: an Rx for the morning-after pill
’!Origin | abbreviation of Latin recipe! ‘take
وجاء في قاموس أكسفورد الجديد:
Rx | (1) prescription / (2) (in prescription) take
وكلها بمعنى وصفة طبية وأصلها من الفعل اللاتيني يأخذ أو فعل الأمر خذ. وقد درج استعمالها قبل كتابة اسم الدواء. ومن هنا كانت أصل تسمية الموقع Bimaristan-Rx. ولا يخفى ما فيه من إشارة على اللبيب.
ومع ذلك، هناك إدعاء بأن رمز Rx تطور من عين حورس، وهو رمز فرعوني قديم كان يعتقد بأن له القدرة على الحماية من الأمراض، وهو -أي الحماية من الأمراض والحسد- زعم باطل بالطبع.
سبب إنشاء الموقع
أصل الأمر كان في نفسي منذ مدة ليست بالقليلة، والسبب في ذلك أني درست في كلية الطب باللغة الإنجليزية ومع وعي بأهميتها لأنها لغة العلم حاليا وبغيرها لن تقدر على مجاراة الأبحاث، ومع ما كنت أتمتع به من مستوى جيد جدا في الإنجليزية وخصوصا الاستماع والقراءة، إلا أنني وجدت في بداية الأمر صعوبة في الفهم، ومع أن صعوبة البدايات تلاشت سريعا إلا أن الفهم الكامل العميق حُجز بيني وبينه بحاجز هو حاجز اللغة والثقافة، وكنت قد اطلعت قديما على كتاب الأستاذ محمود شاكر (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) وأدركت حاجز اللغة والثقافة هذا، ثم قرأت كتاب الدكتورة نفوسة زكريا (تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر) بناءا على توصية الأستاذ محمود شاكر أيضا، وقرأت رسالة زهير السباعي (دفاع عن تعليم الطب باللغة العربية)، ثم قرأت بعض الأبحاث في فلسفة اللغة ومن ثم خلصت إلى أن الفهم الكامل لا يمكن إلا باللغة الأم.
أما الحدث الذي قدح الشرارة فقمت من فوري هو الأتي: كنت أوضح لمريض تفاصيل مرضه ولم أتمكن من ذكر اسم المرض باللغة العربية لهذا المريض، وعندما أصابني العجز ذكرت له اسم المرض بالأصل اللاتيني، حتى أني بحثت في عقلي فلم أتمكن من ذكر أي لفظ عربي ولو على سبيل التقريب، وهذا ليس بمستغرب فكيف لعقلي أن يجود بغير ما حوى!. ثم دخلت محرك البحث جوجل لأعرف اسم هذا المرض باللغة العربية، وهنا كانت الطامة الموقع الثالث في ترتيب ظهور النتائج هو موقع وزارة الصحة لدولة الاحتلال، وإحقاقا للحق كان مقالهم جيد جدا -للعلم كنت أبحث من داخل مصر-. ثم تصفحت النتائج في بعض المواضيع الطبية، وكانت المفاجأة الثانية الغير سارة المقالات غير علمية، وبها والله أغلاط شنيعة، هذا فضلا عن أن بعض المعلومات بها قديمة جدا وقد عفى عليها الزمن، وجلها ترجمة رديئة لمقالات أجنبية، كما أن من يكتب هذه المقالات غير مختصين بالطب وممارسته أصلا، فبعضهم لا يحمل شهادة جامعية وبعضهم يحمل شهادة في التجارة أو الحقوق وأغلبهم من طلاب وخريجي كلية العلوم والصيدلة والأسنان. مع ما في المقالات من قطع في موضع الظن والاحتمال، ووثوقية غريبة لا يتمتع بها أكبر علماء الطب، ثم علمت أن الأمر مرده إلى “ما يطلبه الجمهور”.
رسالتنا
نافذة لنشر المعرفة الطبية؛ للإسهام في انتقاء وبناء ومشاركة المعارف الطبية المُعينة على تجويد التصوّر وإحسان التصرف.
هدفنا
- محاولة إحياء الطب باللغة العربية من جديد ونعلم أن الأمر جد عسير ولكن عسى أن نكون لبنة في هذا. وذلك بالمزاوجة بين الإنجليزية والعربية، فنكتب المقال كاملا باللغة العربية ونكتب المصطلح الطبي بالإنجليزية بجوار ترجمته العربية.
- محاولة نفع أنفسنا قبل نفع الناس(8)، وذلك لأن البحث الجاد من أقوى وسائل التعلم.
- نفع الأطباء وطلاب الطب بما في مقدورنا سواء بالمعلومة الطبية أو بالوسيلة المعينة على البحث أو بالتعريف بطرق البحث وأهم الأوراق العلمية.
- العمل على زيادة الوعي الصحي في المجتمع.
- نفع بعض المرضى بتقديم المعلومة الصحيحة إليهم.
- تقديم الاستشارات والإجابات العلمية المؤصلة بشكل واف وميسر.
مصادرنا
- الطب القائم على الأدلة (Evidence Based Medicine)
- BMJ Best Practice
- Medscape
- UpToDate
- PubMed
- Incision Academy
- Oxford Medical Handbooks
- Pocket Notebook Series
- First Aid for the USMLE Step 1
- Master the Boards USMLE Step 2 CK
ولو كان في الأمر متسع لذكرنا الكثير، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
- دعم باتريون
- اتصل بنا
- info@bimaristan-rx.com
- (1) بيمارستان نور الدين [صلاح الدين المنجد]
- (2) كتاب بحوث ومقالات في اللغة والأدب وتقويم النصوص [محمد أجمل الإصلاحي]
- (3) مقال تاريخ الطب الإسلامي، نشر في العدد 782 من مجلة الرسالة [قاسم غنى]
- (4) مقال تاريخ الطب الإسلامي، نشر في العدد 782 من مجلة الرسالة [قاسم غنى]
- (5) كتاب موجز دائرة المعارف الإسلامية
- (6) بيمارستان نور الدين [صلاح الدين المنجد]
- (7) كتاب تاريخ البيمارستانات في الإسلام [أحمد عيسى]
- (8) عن ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: (ما تعلَّمت العلم إلاَّ لنفسي، وما تعلَّمت ليحتاج النَّاس إليَّ، وكذلك كان النَّاس)